صعدت فكرة العدمية في أوربا الغربية في القرن التاسع عشر كأثر مباشر للحداثة وتقدم العلوم والعلمانية. وبمجموعها أقصت هذه العمليات الأسرار والأشباح والقوى المتعالية من مفهومها للعالم، السيرورة التي سيسميها ماكس فيبر "نزع السحر عن وجه العالم". لقد برز عالم جديد غير مكفول إلهيا. بل إن "الله مات" كما قرر نيتشه. وسيبدو هذا العالم الذي هجرته الأرواح والأشباح منظما وحسن الإضاءة، لكن معوزا للمعنى بصورة جذرية. وقد أخذ الإنسان يقف في عالم انسحب منه الإله أمام خبرة موته دونما عزاء. وبعد أن كان الدين الموحى يتكفل بنسبنة الموت، بل بإماتته، انفلت هذا الآن حدا مطلقا، عدما قاسيا، ساخرا، غير قابل للاختزال أو التخفيف. مات الله فعاش الموت. وستغدو الحياة ثمينة وبلا معنى في الآن نفسه. ثمينة لأنها فرصة نادرة محدودة، لا تُختزَل ولا تُعوَّض. وبلا معنى لأنها مجعولة برسم الموت، تفضي إلى فناء لا نستطيع تجزئته أو"تحليله"، ولا إدراجه في شيء أكبر منه.
ويمايز ضمن العدمية الأوربية بين عدمية معرفية تتظاهر بالريبية الجذرية في المعرفة، وصولا إلى اللارَكَزية (أو اللاأسسية) ما بعد الحداثية، أي إنكار أن يكون لمعارفنا ركائز في الواقع الخارجي، أو في أي شيء أثبت منها؛ وعدمية أخلاقية تنكر تمايز الخير والشر، أو تجعل منهما إنشاءات لإرادة قوة كما عند نيتشه؛ وأخيرا بالخصوص عدمية وجودية تنكر معنى العالم وغايته. وهي قد تقود إلى اليأس والانتحار، أو إلى المتعية المطلقة.
1
على أنه إذا كانت العدمية الغربية، العدمية الوجودية بخاصة، مقترنة بشح المعنى وانعدام الغاية من الوجود، فإنه يمكن تمييز ضرب من عدمية إسلامية خاصة، مقترنة بالأحرى بفيض المعنى. وفي حين أن جذر العدمية الغربية هو موت الله، وأن أكثر فروعها تعي ذاتها عودا إلى نبي الإله الميت، نيتشه، فإن أصل عدمية فيض المعنى الإسلامية المعاصرة هو فرط وجود الله وقدرته وحضوره الكلي. الله هو الموجود الوحيد الحق، لا حَكَم إلا هو، وفقا لما كان رأى الخوارج، مجسدو أحد النماذج الباكرة للعدمية الإسلامية. وأمام إطلاق الله، سيتضاءل الإنسان إلى ما لا نهاية، ما يضفي قيمة نسبية جدا على حياته، ويجعلها قابلة للحذف والإلغاء و..الإعدام. الله حي، الموت ميت. ومعه الحياة.
كانت فرقة الأزارقة من الخوارج، المنسوبة لنافع بن الأزرق، تبيح قتل نساء وأطفال من لا يشاركونها المذهب، وكانت تقتلهم فعلا. ينبغي اعتبار ذلك أثرا للحضور المطلق لله. كل شيء مباح إن كان الله معي، بل إن كنت أقرأ أفكاره.
2
ويبدو أن من شأن مقاربة قضية "خلق القرآن" التي دافع عنها المعتزلة، وأنكرها المحدّثون وأهل السنة، أن تلقي ضوءا على مظاهر العنف السياسي في التاريخ الإسلامي. فرغم أن المبدأ المعتزلي أكثر تنزيها لله وتوافقا مع الوحدانية الإسلامية، إلا أن إنكار كون القرآن مخلوقا يقرّب الأمة (المتكونة حول القرآن) من الله، ويرفع من شأنها ويضفي عليها قدسية أو ألوهية و"اصطفاءا"، يجردها منه مبدأ خلق القرآن. فالقرآن هو ميثاق أمة المسلمين، وإن كان مخلوقا كانت مرتبتها أدنى مما لو كان الميثاق "قديما" وأصليا. إن خلق القرآن يُدرِج الأمة وميثاقها في التاريخية، فينال من رفعة مكانتها، ومن عصمتها. ونفي مخلوقية القرآن قد يحمل شبهة الشرك (وجود قديمين) إلا أن فيه تشريفا للأمة.
وقد يكون هذا هو الدافع الأقوى في كل دين، أعني بناء هوية تعبد ذاتها، عبر تقديس مبدئها أو ميثاقها، ومنح نفسها نسبا إلهيا. فمن وراء الانتساب إلى الله، ثمة تنسيب لله إلى الأمة أو احتكار له. إن الله مسلم عند المسلمين، ومسيحي أو المسيح بالذات عند المسيحيين، ويهوه هو رب اليهود. فكأنما الدينين الإبراهيميين الذين أتيا بعد اليهودية، وناديا بإله كوني، لم يلبثا أن تملّكا هذا الإله ونسباه إلى جماعتيهما، عائدين بذلك إلى أصلهما اليهودي. لا يسع الله أن يكون مسلما وعالميا (أو رب العالمين). ولا يسع المسيح أن يكون مسيحيا وعالميا بدوره.
ورغم أن المعتزلة تكونوا كفرقة تنافح عن الإسلام ضد خصومه، إلا أن دفاعهم كان يقترح "إلها دستوريا" ("أوجب على نفسه العدل")، بحيث يمتنع على احتكار المسلمين له. وهو إله ترك الإنسان حرا مسؤولا. وهنا أيضا يشكل رفض أهل الحديث والجبريين، ومنهم هنا المذهب الأشعري، حرية الإنسان رفعا من شأن الأمة بمنح الله، إلهها، سلطانا مطلقا وغير دستوري لا تحد منه حرية الإنسان. وبين السلطان هذا والسلطان السياسي "تشاكل" إن استعرنا لغة عبد الرحمن الكواكبي. وأعني أن السلطان الإلهي المطلق يشكل نموذجا قياسيا لسلطان الحكم السياسي.
نريد أن تعظيم الأمة، المُعرّفة بدينها، والخفض من شأن الإنسان الفرد، يجد أصوله في إطلاقية السلطان الإلهي. الأمة وحدها تتماهى مع الله، وليس الأفراد. هذا يمنح موقعا لا يُخاصَم لممثلي الأمة السياسيين وللناطقين الدينيين باسمها، يتفقون أحيانا ويتخاصمون أحيانا. وإنما عن تعظيم الأمة، وعن قراءة أفكار الله، يصدر الإرهاب الإسلامي المعاصر.
وقد يبدو أن هذا التحليل يتعارض مع واقع أن المأمون والواثق والمعتصم العباسيين، وقد كانوا أنصارا للمعتزلة، عملوا على فرض مذهب الاعتزال بقوة سلطانهم، وكانوا مستبدين مثل غيرهم. ومحنة أحمد بن حنبل معروفة. هذا صحيح، وهو من طبائع الاستبداد المستنير. على أن الاستبداد لم يكن أقل في العهود الأخرى، وإن مقابل تهدئة العامة ورعاية رموزهم. وهو هنا أوثق صلة بنزعة الجبر التي تكاد تعلن "موت الإنسان" لشدة حضور الله. الحضور المفرط والفائض هذا، وتماهي "الأمة" فيه، يؤسس لاستبداد قاس ويسوغه إلى ما لا نهاية. فالأمة تفقد طهرها وقداستها دون استئصال مستمر للمخالفين والشواذ منها. التكفير، أو "الإكفار" في المصطلح القديم، ينبثق من حاجة الأمة إلى النقاء، إلى التماثل مع المعنى الأصلي، الواحد. و"الأمة" هذه لا تطابق المجموع النثري للمسلمين، بل هي الكيان المنظم لهم، على نحو ما يعرفه الفقهاء ويربطونه بالسلطان. الأمة هذه مدينية وحضرية إلى حد بعيد. أهل البادية والريف خارجها.
وعدا فرقتي الأزارقة الخوارج وأهل السنة، فإن دعاة الحاكمية الإلهية من الإسلاميين المعاصرين يقررون بدورهم أن لا حكم إلا الله، وأن من لم يحكم بما أنزل هم الكافرون. هنا أيضا يتوافق تقريب الله إلى شؤون الناس السياسية والحياتية، مع تعصب مفرط للجماعة أو "الأمة" الحاملة راية الله، ومع استعداد مجرّب للإعدام، على نحوٍ ميّز الحركات الإسلامية طوال جيل انقضى، وبلغ ذروته في "مأثرة" منظمة "القاعدة" عام 2001 في أميركا.
3
وثمة ما يشبه ذلك في شيوعية القرن العشرين. ففائض المعنى واليقين الذي ميزها اقترن بفائض من العنف و"الإعدامية". وقد أظهرت استعداد لافتا لشخصنة المعنى في زعيم خارق أو عبقري مثل ستالين وماو وكيم إيل سونج ... وهو ما عرضت نزعات قومية عالم ثالثية ميلا مشابها إليه. يجري هنا تجسيد المعنى والقيمة في شخص يحوز سلطة مطلقة بحيث لا يمكن لمعارضه إلا أن يكون خائنا أو عدوا، ما يبيح محقه. أمام مطلقات كالدين والأمة وقوانين التاريخ، يغدو الإنسان قابلا بسهولة للعدم والإعدام. والمجاهد الإسلامي النموذجي والمناضل الشيوعي النموذجي هو من يستخف بالحياة من أجل القضية أو الدين أو الأمة أو الحزب. إنه مستعد لأن يقتل الأعداء، كما لأن يُقتل في مواجهة الأعداء. هذا ما تقضي به "أخلاقية الاعتقاد" التي يعتنقها.
وبينما قد يكون الانتحار أو إعدام الذات مخرجا من العدمية الوجودية كما سلفت الإشارة، فإن عدمية فيض المعنى، الإسلامية وغير الإسلامية، تعادي الانتحار، إلا أنها قد تنحر وتقتل. وهي لا تعادي الانتحار لأنها تكرّم الحياة بحد ذاتها، بل لأن الحياة وديعة لشيء آخر، أسمى، فلا يحق لحي أن يتصرف بها كأنها ملك شخصي مطلق له، على نحو ما تشرع عدمية شح المعنى.
الانتحار قرين الفردانية وتحول الذات إلى مركز قرار ومبادرة وحرية، وبخاصة قدرة على "خلق" أفعال انعكاسية: وعي الذات، تحليل الذات، محاسبة الذات، اتهام الذات، تغيير الذات، و..إعدام الذات. في عدمية فيض المعنى، الذات الحرة الوحيدة هي الله. نحن مخلوقاته وعبيده. له أن يعدمنا، لكن ليس لنا أن نعدم أنفسنا. لذلك العدمي الوحيد الممكن من زاوية نظر عدمية فيض المعنى الإسلامية هو الله، غاية كل شيء، لكنه في سلطانه المطلق مستغن عن كل شيء، لا معنى لأي شيء في عينه التي لا تغفل، وقد يقدم في أية لحظة على خسف العالم وتحويله هباء منثورا. هل يمكن لله أن يعدم ذاته؟ الواقع أنه لا يكون حرا إن لم يكن قادرا على ذلك. ومعلوم كم انشغل التيار الرئيس في الفكر الإسلامي بإثبات حرية الله المطلقة. لا يستطيعون تاليا اجتناب التساؤل عن قدرة الله على إعدام ذاته.
4
لدينا مفارقة. اقترن شح المعنى في الغرب بثورات ثقافية متصلة أغنت الثقافة الغربية إلى حد لا يصدق. قد يمكننا القول إن الثقافة الغربية سعي موصول للتغلب على العدم المتولد عن موت الله، أو ببساطة عن زوال المسيحية. هذه الروح المسعورة التي تتملكها تفسر عبادتها للإبداع والاختراع والاختلاف والتجدد، وافتتانها بالثورة والتغير والموت والنهايات. لا يكف الغربيون عن صنع معان جزئية لأنهم فقدوا بلا رجعة المعنى الكلي.
بالمقابل يبدو أن فيض المعنى لدينا معقِّم ثقافيا. هناك معنى كبير واحد، لكنه لا يعقِّب. كأنه أب أسطوري لا يكف عن أكل أبناءه. فيض المعنى هو معنى واحد فائض، وليس ثروة من المعاني وتدفقا متجددا لها. نسلم، هنا، أن تعبير فيض المعنى ملتبس. فهو يوحي بعالم غني بالمعاني، أو برحم خصيب لا يكف يفيض معاني مختلفة للحياة (والموت والوجود والإنسان..). فيما تحيل عدميات فيض المعنى في الواقع إلى معنى واحد كبير متصلب، كلي الحضور. يتعلق الأمر هنا بالأحرى بفرط تحدد المعنى أو بفرط صموده أمام التفكر البشري، وامتناعه على التحليل والتأويل. أي على الثقافة. يأخذ فيض المعنى الإسلامي شكل حضور مباشر ومفرط الصلابة لله، لا تتوسطه مفاهيم أو معقولات إنسانية. أي أنه حضور ملموس وصمدي ومتجمد. وثني.
ويطال التجمد والتوثين بالخصوص اللغة والنص الإلهي، فيلغي تعدد دلالاتها والتباسها وظلال المعنى المتزاحمة فيها، وينكر التباس الإنسان والشرط الإنساني ذاته. فضلا عن صيغة قانونية تنفيذية، هنا والآن وفي كل آن ومكان، لـ"الشريعة" التي هي أمر الله. يبدو الإنسان هنا جهازا قابلا للبرمجة، آلة مطواعة تطبق برنامج "الشريعة"، وإلا فهي فاسدة أو "كافرة"، جديرة بأن تعدم.
ونتبين دونما صعوبة تناسبا بين مباشرية وفرط تحدد المعنى وبين النزوع العنفي للإسلاميات المعاصرة. أعنفها، الوهابية، هي أقلها تقبلا لتوسط الفكر البشري بين الإنسان وبين النصوص الأساسية. تبدو هذه معاصرة لنا، لا يتطرق شك أو لبس إلى حرف منها، ونعرف تماما المقصد من أقوالها جميعا. لفرط قربه، يبدو الله ذاته وهابيا هنا. (في واقع الأمر، نعلم أن القرآن لم يكن ميسور الفهم لصحابة النبي ذاتهم، وأن "الحديث" يثير نقاشا واسعا ويصعب أن ينتهي).
بالمقابل، ثمة تناسب بين لا مباشرية المعنى، وتوسط الثقافة بيننا وبين نصوص الدين، وبين انفصال الدين عن العنف. الصوفية من هذا الباب بعيدة عن العنف لكونها تقر بتعدد مستويات النص وعدم قابليته للاستنفاد، أي بتموج المعنى وتنائيه أو إرجائه. وبما هو إقرار بلا مباشرية المعنى، "التأويل" يعني أننا نحتاج إلى "الثقافة" من أجل أن نفهم "النص". من يؤول لا يقتل. الصوفي لا يقتل. بالمقابل، فيض المعنى عادم للثقافة قبل كل شي. لاغ للتأويل. ويقتل. عدمي.
5
على أن مسألة تحدد المعنى ومباشريته اجتماعية وتاريخية في جانب منها. نلاحظ في العقود الثلاثة الأخيرة انتشارا أكبر للقراءات الحرفية وتوسلا أوسع للعنف وتطلبا أشد للسلطة العامة. تثبيت النصوص أو المعاني يتوافق مع تطلب للسلطة على الناس والعالم هو ما يعكسه أيضا اللجوء الواسع إلى العنف، والسعي للفوز بالسلطة العليا. قد يتصل الأمر بهشاشة عامة لمجتمعات المسلمين، ربما تولدت هي ذاتها عن انفصالها "المادي" العنيف عن "الإسلام" كنظام للدولة والمجتمع. وربما أيضا باغتراب المعنى الإسلامي في العصر ومقاطعة الثقافة له، أي أيضا ضعف الاشتغال عليه وتحويله وتجديده وتثقيفه وتحديثه.
متروكا خارج الثقافة وخارج الدولة، يلجأ المعنى الإسلامي المهجور إلى النص، يعتصم فيه ويصمد. لكن ليس دون أن يتشكل هذا (النص) بصورة تمكنه من تلبية وظيفة الملجأ، أي كحصن، كقاعدة صلبة لا تقبل التحليل والتفريق والتعدد. يريد النص المهجور أن يشكل عالما أهمله ولم يعمل على تشكيله. فإذا التقى هذا الشرط الثقافي بشرط سوسيولوجي يتمثل في غربة قطاعات من الجمهور حيال تنظيمات الدولة الحديثة في هذا العالم الحديث الجائر، كان من المحتمل أن تتوسل نخب اجتماعية دينية الدين لمواجهة جذرية مع هذا العالم الثقافي السياسي الذي يبقيها خارجا. وتوسل الدين كسلاح سياسي يقتضي تحويل النصوص الدينية إلى إيديولوجية عمل مباشر، الأمر الذي يتوافق بدوره مع تصليب معانيها وممانعة الجهد التوسطي للثقافة. هنا أصل الإرهاب.
في المحصلة الإسلامية العنفية المعاصرة متصلة بروابط وثيقة مع كل من مقاطعة الثقافة للدين، ومقاطعة تنظيمات الدولة الحديثة للقطاعات الاجتماعية الأكثر تماهيا به. فهي تاليا نتاج عذاب الإسلام المعاصر، عقيدة وجماعة.